سورة النمل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


يقول الحق جل جلاله: {طس} أي: يا طاهر يا سيد. قال ابن عباس: «هو اسم من أسماء الله تعالى»، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين. قلت: ولعلها مختصرة من اسمه اللطيف والسميع. وقيل إشارة إلى طهارة سر حبيبه. {تلك آياتُ القرآن}، الإشارة إلى نفس السورة، وما في معنى الإشارة من معنى البُعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان ببُعد منزلته في الفضل والشرف، أي: تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هي آيات القرآن، المعروف بعلو الشأن. {و} آيات {كتابٍ} عظيم الشأن {مُبين}؛ مظهر بما في تضاعيفه من الحِكَم، والأحكام، وأحوال الآخرة، أو: مبين: مُفرق بين الرشد والغي، والحلال والحرام، أو: ظاهر الإعجاز، على أنه من: أبان، بمعنى بان، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى، نحو: هذا فعل السخي والجواد.
ونكّر الكتاب ليكون أفخم له. وقيل: إنما نكّر الكتاب وعرّفه في الحِجْر، وعرّف القرآن ونكره في الحِجْر؛ لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفان له؛ لأنه يُقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف. قاله النسفي.
وما قيل من أهل الكتاب هو اللوح المحفوظ، وإبانته أنه خُطَّ فيه ما هو كائن، لا يساعده إضافة الآيات إليه. والوصف بالهداية والبشارة في قوله: {هدىً وبُشرى للمؤمنين} أي: حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين، فهما منصوبان على الحال، من الآيات، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل؛ للمبالغة، كأنهما نفس الهداية والبشارة، والعامل فيها ما في {تلك} من معنى الإشارة، أو خبر، أي: هي هدى وبشرى للمؤمنين خاصة؛ إذ لا هداية لغيرهم بها.
{الذين يقيمون الصلاة}؛ يُديمون على إقامة فرائضها وسننها، ويحافظون على خشوعها وإتقانها، {ويُؤتون الزكاة} أي: يؤدون زكاة أموالهم، {وهم بالآخرة هم يُوقنون} حق الإيقان. إما من جملة الموصول، وإما استئناف، كأنه قيل: هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان، لا من عداهم؛ لأن من تحمل مشاق العبادات، إنما يكون لخوف العقاب، ورجاء الثواب، أولاً، ثم عبودية آخراً، لمن كمل إخلاصه.
ثم ذكر ضدهم، فقال: {إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يُصدّقون بها، وبما فيها من الثواب والعقاب، {زيَّنَّا لهم أعمالهم} الخبيثة، حيث جعلناها مشتهية للطبع، محبوبة للنفس، حتى رأوها حسنة، كقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8]، {فهم يَعْمَهُونَ}؛ يترددون في ضلالتهم. كما يكون حال الضال عن الطريق. {أولئك الذين لهم سوءُ العذابِ} في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر، {وهم في الآخرة هم الأخسرون}؛ أشدّ الناس خسراناً؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة، فخسروا ذلك مع خسران ثواب الله والنظر إليه.
عائذاً بالله من جميع ذلك.
الإشارة: طس: طهر سرك أيها الإنسان، لتكون من أهل العيان، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار، وحينئذٍ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين: فإنَّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه، كما في الخبر. ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة...} إلخ، قال القشيري: أغشيناهم فهم لا يُبصِرون، وعَمَّيْنَا عليهم المسالك، فهم عن الطريقة المُثْلَى يَصدون. أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون. {أؤلئك الذين لهم سوء العذاب} هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المُبْتَلِي، ولو وجدوه تحمل عنهم ثِقَله بخلاف المؤمنين. اهـ.


قلت: {تُلَقَّى}: مبني للمفعول. والفاعل هو الله؛ لدلالة ما تقدم عليه، من قوله: {وإنه لتنزيل رب العالمين}. و (لقى): يتعدى إلى واحد، وبالتضعيف إلى اثنين. وكأنه كان غائباً فلقيه، فالمفعول الأول صار نائباً. و {القرآن}: مفعول ثان، أي: وإنك ليلقيك الله القرآن.
يقول الحق جل جلاله: {وإِنك} يا محمد {لَتُلَقَّى القرآنَ} أي: لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين {من لَدُنْ حكيمٍ عليم} أي: من عند أيّ حكيم وأيّ عليم، فالتنكير للتفخيم. وفي تفخيمه تفخيم لشأن القرآن. وتنصيص على علو طبقته- عليه الصلاة والسلام- في معرفته، والإحاطة بما فيه من العلوم والحِكَم والأسرار فإن من تلقى العلوم والحِكَم من الحكيم العليم يكون عَلَماً في إتقان العلوم والحِكَم. والجمع بينهما مع دخول العلم في الحكمة؛ لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأن ما في القرآن من العلوم، منها ما هو حكمة، كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك، كالقصص والأخبار الغيبية. قاله أبو السعود.
قال ابن عطية: في الآية رد على كفار قريش في قولهم: القرآن من تلقاء محمد. وقال القرطبي: الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه، ومن آثار ذلك: قصة موسى {إذ قال لأهله...} إلخ. اهـ.
الإشارة: قال أبو بكر بن طاهر: وإنك لَتُلَقَّى القرآن من الحق حقيقية، وإن كنت تأخذه في الظاهر عن واسطة جبريل عليه السلام. قال تعالى: {الرحمن عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} [الرحمن: 1، 2]. اهـ. قلت: العارفون بالله لا يسمعون القرآن إلا من لَدُنْ حكيم عليم، بلا واسطة، الواسطة محذوفة في نظرهم، فهم يسمعون من الله إلى الله، ويقرؤون بالله على الله، كما قال القائل: أنا بالله أنطق، ومن الله أسمع. ومما يحقق لك حذف الواسطة: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 28] وسمعت شيخي البوزيدي رضي الله عنه، يقول: لا يكون الإنسان من الراسخين في العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه، أي: يقرأ بالله ويسمعه من الله. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: واذكر {إِذْ قال موسى لأهله}؛ زوجته ومن معه، عند مسيره من مدْين إلى مصر: {إِني آنستُ} أي: أبصرتُ {ناراً سآتيكم منها بخَبَرٍ} عن حال طريق التي ضل عنها. والسين للدلالة على نوع بُعد في المسافة، وتأكيد الوعد. {آو آتيكم بشهابٍ قبَسٍ} أي: شعلة نار مقبوسة، أي مأخوذة. ومن نوّن فبدل، أو صفة، وعلى القراءتين فالمراد: تعيين المقصود الذي هو القبس، الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء؛ لأن من النار ما ليس بقبس، كالجمرة. وكلتا العِدتين منه عليه السلام بطريق الظن، كما يُفصح عن ذلك ما في سورة طه، من صيغتي الترجي والترديد؛ لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول: سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه التخلف. وأتى بأو؛ لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معاً لم يعدم واحدة منهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى، وهي عزّ الدنيا والآخرة.
واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين، والقصة واحدة، دليل على نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج. قاله النسفي.
{لعلكم تَصْطَلُون}؛ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم.
{فلما جاءها} أي: النار التي أبصرها {نُودِيَ} من جانب الطور {أن بُورِكَ}، على أنّ {أنْ} مفسرة؛ لما في النداء من معنى القول. أو: بأن بورك، على أنها مصدرية، وقيل: مخففة، ولا ضرر في فُقدان الفصل بـ لا، أو قد، أو السين، أو سوف؛ لأن الدعاء يخالف غيره في كثير من الأحكام، أي: أنه، أي: الأمر والشأن {بُورِكَ} أي: قدّس، أو: جعل فيه البركة والخير، {مَن في النار ومَنْ حولها} أي: من في مكان النار، وهم الملائكة، {ومَنْ حولها} أي: موسى عليه السلام، بإنزال الوحي عليه، الذي فيه خير الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس والحسن: (بورك من في النار أي: قُدِّس من في النار، وهو الله تعالى) أي: نوره وسره، الذي قامت به الأشياء، من باب قيام المعاني بالأواني، أو: من قيام أسرار الذات بالأشياء، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها، ثم نزّه- سبحانه- ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد، فقال: {وسبحان اللهِ} أي: تنزيهاً له عن الحلول في شيء، وهو {ربّ العالمين}.
ثم فسر نداءه، فقال: {يا موسى إنه} أي: الأمر والشأن {أنا الله العزيزُ الحكيم} أو: إنه، أي: مكلمك، الله العزيز الحكيم، وهو تمهيد لِما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات. {وألقِ عصاك} لتعلم معجزتها، فتأنس بها، وهو عطف على {بُورك} أي: نودي أن بورك وأنْ ألق عصاك. والمعنى: قيل له: بورك من في النار، وقيل له: أَلقِ عصاك، {فلما رآها تهتزُّ}؛ تتحرك يميناً وشمالاً، {كأنها جانٌّ}؛ حية صغيرة {وَلَّى} موسى {مُدْبِراً} أي: أدبر عنها، وجعلها تلي ظهره، خوفاً من وثوب الحية عليه، {ولم يُعقِّبْ}؛ لم يرجع على عقبيه، من: عقّب المقاتل: إذا كرّ بعد الفر.
والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعي، لا يتخلف، وليس في طوق البشر.
قال له تعالى: {يا موسى لا تخفْ} من غيري، ثقة بي، أو: لا تخف مطلقاً {إني لايخاف لَدَيَّ المرسلون} أي: لا يخاف المرسلون عند خطابي إياهم، فإنهم مستغرقون في شهود الحق، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره. وأما في غير أحوال الوحي؛ فهم أشد الناس خوفاً منه سبحانه، أو: لا يخافون من غيري، لأنهم لديَّ في حفظي ورعايتي. {إلا من ظَلَمَ} أي: لكن من ظلَم مِن غيرهم؛ لأن الأنبياء لا يَظلمون قط، فهو استثناء منقطع، استدرك به ما عسى يختلج في العقل، من نفي الخوف عن كلهم، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء- عليهم السلام- كما فرط من آدم، وموسى، وداود، وسليمان- عليهم السلام- فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى- عليه السلام- ومن وكزه القبطيّ. وسماها ظلماً، كقوله عليه السلام في سورة القصص: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16].
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر في الاستثناء كونه متصلاً، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم، كما اتفق لموسى في مدافعة القبطي عن الإسرائيلي، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموماً، ولكن لَمَّا لم يُؤذَن له خصوصاً عُد ذلك ظلماً وذنباً. وأما ما سرى من القتل فلم يقصده، وإنما اتفق من غير قصد. اهـ.
قوله: {ثم بدّلَ حُسْناً بعد سُوءٍ} أي: أتبع زلته حسنة محلها، كالتوبة وشبهها، {فإني غفور رحيمٌ} أقبل توبته، وأغفر حوبته، وأرحمه، فأحقق أمنيَّته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقدم بعض إشارة الآية في سورة طه. وقوله تعالى: {أن بورك من في النار...} تقدم قول ابن عباس وغيره: أن المراد بمن في النار: نور الحق تعالى. قال بعض العلماء: كانت النار نوره تعالى، وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه ناراً، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. اهـ. ومنه حديث: «حجُابه النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه كلَّ شيء ادركه بصره»، أي: حجابه النور الذي تجلى به في مظاهر خلقه، فالأواني حجب للمعاني، والمعاني هي أنوارالملكوت، الساترة لأسرار الجبروت، السارية في الأشياء.
وقال سعيد بن جبير: (هي النار بعينها)، وهي إحدى حجب الله تعالى. ثم استدل بالحديث: «حجابة النار» ومعنى كلامه: أن الله تعالى احتجت في مظاهر تجلياته، وهي كثيرة، ومن جملتها النار، فهي إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها، وإليه أشار ابن وفا بقوله:
هو النورُ المحيط بكل كَون ***
ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء في الذات، العارفون بالله، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لِما رمزوا إليه، وإلا وقع الإنكار على أولياء الله بالجهل، والعياذ بالله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8